الكاتب والأديب السوري علي ديبة: القصة الساخرة أقرب إلى ذاكرة المتلقي
مكتب دمشق- علاء الدين محمد:
اسم أدبي سوري عرفته دورياتنا الأدبية والثقافية المحلية والعربية، عضو اتحاد الكتّاب العرب، عضو مشارك في اتحاد الصحفيين، انتخب مقرراً لجمعية الرواية والقصة القصيرة قبل سنوات، لم تتوقف كتابته عند جنس أدبي معيّن، بل كتب الرواية والقصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي، وله مؤلفات مسرحية ومجموعة قصص للأطفال. أغلب مسرحياته تحمل طابعاً سياسياً بامتياز، وجاءت عناوينها على التوالي: لعبة السلطان، حدث في العالم الآخر، المفتاح المقدس.. مسرحيات مكتوبة بلغة بعيدة عن المباشرة والتكلف والإقحام، اعتمدت على ذاكرة المتلقي ولامست وعينا الجمعي في حياكة المعاني وصوغها مادة حيّة مفعمة بحيوية تتميّز بها لغة المسرح، أهم مطبوعاته المسرحية: “حامد الشماميس”.. و”العائد من الموت”، وهي مسرحية ساخرة بطلها شخص واحد على الخشبة، غير أنه شخص مختلف عن الأشخاص الأسوياء بكل المقاييس الفكرية والبنائية. أما في القصة فقد تميّز بكتابات نقدية ساخرة جسّدها في مجموعات قصصية نشرها على مدى سنوات في دورياتنا المحلية السورية والعربية.. كانت بمثابة تطلعات مشروعة، أو هي تقويم إعوجاجات موروثة في جوانب من ثقافاتنا، فتح ملفاتها بجرأة، واستطاع عبرها ترتيب شرايينها وأوردتها المتعبة، إنه الأديب والكاتب علي ديبة الذي التقته “استجواب” في دمشق فكان هذا الحوار.
* ألا تعتقد أن التنوع في الأجناس الأدبية قد يؤثر على المنتج الأدبي للكاتب؟.
** الفن هو الفن، والخيال هو الخيال، لا أعتقد أن مخيلة الأديب تتوقف عند جنس إبداعي وتلزم حدوده.. ماعدا الشعر، فهو متفرد بذاته إلى حدّ بعيد، إذ يمكن لكل كاتب أن يكتب همسات شعرية، لكن الشاعر قد لا يفكر بالخروج من صومعة الشعر، والأمثلة هنا أكثر من أن تُحصى.
* ما هو سر عدم التزامك بواحد من قوالب الأدب؟.
** لحياة الأديب معناها الدائم المتجدّد، الذي يجاري مخزونها المعرفي، هكذا كانت سنوات عمري مليئة بالحوافز والمعطيات، كنت أكتب بلا أي تصور عما أنتجه سوى أنه صدى لما تعتمل به روحي، ما ساهم كثيراً في عدم التزامي بقالب محدّد من قوالب الأدب، فالكتابة التي تغلي لا يمكن تأطيرها إلا بعد أن ترى النور ويمنحها الكاتب هويتها أكانت مسرحية أم قصصية أو روائية.
*عالم الرواية نسيج اجتماعي معرفي يترجم حياة متكاملة البناء، ولعلّ التاريخ هو الميدان الأكبر لتقديم أعمال تستحق الاهتمام.. والسؤال: أين علي ديبة الروائي من هذا؟.
** المطالعة الكثيفة أكسبتني محبة الأدب عامة، والروائي والقصصي خاصة، كما أكسبتني روح الحياة شغفاً بالمسرح وعالمه، ويبقى للشعر شفافيته المؤثرة في عواطف البناء الروحي للإنسان.. ولعلّ استخدام مصطلح المثقف الأدبي هنا يناسب هذه المسميات، في كل ما قرأت لم أشعر يوماً أن عليّ التوقف هنا أو هناك، فالبحث والانتقال المستمر وراء الجوهر عزّز مشواري الأدبي، حتى صار قلمي مجرد ناقل لأفكاري، وإن كان يرسم صوراً ولوحات تمثل حياة أهلي وناسي، لأن عالم الرواية هو حقيقة كما قلت: نسيج اجتماعي معرفي يترجم حياة متكاملة البناء، ولعلّ التاريخ هو الميدان الأكبر لتقديم مدونات وأعمال تستحق الاهتمام.
في الكتابة الروائية الموضوع هنا يعود لانتماء الروائي وثقافته واهتماماته، فالرواية التاريخية تختلف عن الرواية الاجتماعية أو السياسية، والتصرف الروائي الآخر لا يخضع لمقاييس معلومة، حيث يعتمد الروائي على متخيلات تمثلتها ذاكرته عبر رحلته الطويلة مع العمر، هكذا يزرع الأديب مفرداته وسطوره أمنيات فردية وطموحات اجتماعية لقرية أو مدينة أو حتى شعب وأمة.. وهو بتصوراته يعيد ترتيب النسيج الاجتماعي وفق رغبات فشلت في تحقيق ذاتها.
* رواياتك “تلاشي الزرقان، الحطب، نهاية كلب أزعر” حمّلتها عناوين غريبة وجميعها ذات طابع اجتماعي سياسي، لماذا اخترت هذا الطابع؟.
**الرواية الأولى ارتبط العنوان باسم بطلها عادل الزرقان، الذي لا يموت، إنما يتلاشى لسبب من عظمته في قيادة معركته مع الحياة، وتجاوزه مراكز قوى السياسة، بما لها وما عليها.. قضايا كبيرة تترعرع بين جانحي طفل، يحملها مع جده الهارب من العار، ليجد ألف عار بانتظاره.. هكذا يمضي الراوي مع الحفيد الصغير إلى عالم صاخب متخيّل، ينتهي به إلى سجون السياسة وما فيها من بكائيات الحنين وفرار الروح نحو مفازات الذكريات. يستحضر معها السجين الملامح والصور كما هي، من غير مساس تجميلي يسود المجتمعات. في روايتي الحطب كما في روايتي السياسي أيضاً، لم أتوقف عند السيطرة العالمية على مقدرات الشعوب، إنما تجاوزت ذلك نحو السيطرة على التاريخ وتزويره بما يتفق ويتلاءم مع كذبة أرض الميعاد وما يجري في فلسطين. هكذا صارت المخابئ السرية هدفي لفضح اللعبة وشرح ألغازها وتفاصيلها في سياق السرد الروائي، وهذا يعني فيما يعنيه سيطرة اللوبي الضاغط في أوروبا على مفاصل الأحزاب والجمعيات حتى فقدت هذه الدول حريتها ودخلت في سباقات حققت حروباً عالمية ملأت جيوبهم بالأموال، هذه الأموال كانت المؤسّس الأول للعبة الاستيطان. كذلك في روايتي سيرة القديس عالم مختلف عن عوالم نعيشها، عالم نعرفه ولا نعرفه، تجاوزتُ فيه كل خطوط الألم نحو ألم مختلف.. تجاوزت فيه كل الشعارات والوطنيات نحو مواقع اجتماعية أعتبرها وأراها تراكمات خلفها التاريخ وراءه. مفارقات تنتج الإنسان أكثر مما تنتجه الأسرة والعائلة وسواهما من مفاهيم التكون والوجود.. مآسٍ وعذابات لا حصر لها تنتقل من الريف إلى المدينة، يأتي بها طفل هارب من مواجع السياسة والتاريخ، يحملها إلى بيروت لتبدأ معركته الكبرى في عالم تنخر عظامه المتناقضات. ويبقى عالم روايتي “نهاية كلب أزعر” أكثر إشكالية، فعلى الرغم من عنوانها البسيط اللافت، إلا أنها رسمت أهم مرحلة في تاريخ سورية، المرحلة الانتقالية بين الاستعمارين التركي والفرنسي.. طبع الرواية اتحاد الكتاب العرب، لما فيها من خوض غير معروف في تاريخ سورية المعاصر، خوض رسم أسس التطور الثقافي في شرق سورية وحدودها الشمالية انتقالاً إلى حلب، وما فيها من العلاقات الاجتماعية. وبرأيي أن الوضع الاجتماعي لا ينفصل عن سواه، لكنه العمود الفقري في كل رواية، وهو الأساس لكل بناء يرتبط بالسرد.. وهذا لا يعني استقلاله التام.. فالأوضاع الاجتماعية السياسية للشعوب هي المحرق والمركز، تدور في فلكهما محاولات الحراك الاجتماعي في البناء والتغيير.
*للقصة القصيرة دورها الثقافي المميّز، فقد نشرت عدداً مهماً من القصص في دورياتنا اليومية والأسبوعية الثقافية، وفي دوريات اتحاد الكتاب من الأسبوع الأدبي إلى الموقف الأدبي.. وغيرهما، كما كانت لك مجموعات قصصية مميزة نذكر منها: سفارة جحا، الهزيمة الأولى للعتابا، ثمن قبلة عزيزة.. وقوباز التي صدرت عن دار ذي قار في بيروت.. ماذا تقول عن هذا الجنس الأدبي؟.
** القصة القصيرة فن جذاب يؤدي دوراً ثقافياً فاعلاً، لقربه من الواقع المعاش، وتمثلِهِ الظرف اليومي بما له وما عليه.. المؤلف يدخل فيها عالم الناس ليأخذ منها الغريب والعجيب.. المبكي والساخر، التراجيدي والكوميدي.. وتبقى القصة الساخرة أقرب إلى ذاكرة المتلقي، فالقصة الرمزية التي تعنى بالعبارات الأدبية تخاطب جمهوراً متخصصاً، وكذلك القصص السياسية تقترب من انتماءات أقل جماهيرية، على خلاف عمومية الرؤى والحوار في الأدب الصريح الساخر.
*اهتمامك بالمسرح ترافق مع البدايات، فقرأنا لك أكثر من مسرحية، وأهمها “الفينشار، قبضة سوداء، حامد الشماميس..”، هل كان المسرح خيارك الأول في مسيرتك الإبداعية؟.
**نعم خياري الأدبي الأول كان في المسرح، ربما لأنني رأيت مساحة التعبير وإبداء الرأي تتوفر أكثر ما تتوفر في المسرح.. وربما لأنني تأثرت بأدباء عالميين وروائيين سكن المسرح ثقافتهم، أما درجة النجاح في خياري فأتركها للأيام ولأجيالنا القادمة التي أتوجه إليها من خلال مجلتكم “استجواب” لأقول: أتمنى لأجيالنا القادمة الإفادة من تراث الأدباء فيما تركوه من مدونات لأبنائنا، ينبغي أن يتعلموا ويستفيدوا من تجارب كتابنا الكبار.. نريد لوطننا كل الارتقاء، علنا ننجح في الخلاص من أخطاء الماضي وعلله وكبواته وثغراته، التي استغلها الغزاة والمستعمرون ونفذوا منها إلى تحريك مواجعنا والتأثير في ثقافتنا ووعينا.