مهرجانات المدن القديمة في موريتانيا: وسيلة للتنمية ومساهمة في صيانة التراث الوطني وتثمينه
“مدننا التاريخية رمز لهويتنا الحضارية وشاهد حي على دورنا التاريخي .
شكلت المدن الموريتانية القديمة شنقيط، و ودان، و تيشيت و ولاتة، المصنفة تراثا بشريا من طرف منظمة اليونيسكو، عبر تاريخ البلاد نقاط تلاق وتمازج بشري ومراكز تبادل تجاري ومنارات إشعاع علمي وفكري.
إن الموروث الفكري والمعماري الناتج عن تراكمات تاريخية طويلة والذي تتوفر عليه المدن القديمة الأربعة المصنفة تبعا لذلك تراثا حضاريا بشريا، يشكل رصيدا وطنيا هاما بالإمكان توظيفه بعد تأهليه وتفعيله وبلورته ليصبح رافعة اقتصادية ناجعة وعامل إنماء اقتصادي وتطور اجتماعي وارتقاء فني وفكري من شأنهما ليس فقط أن يحسنا من الظروف الحياتية ويرفعا من المستوى المعيشي لساكنتها، بل أن ينعكسا إجابا على دفع وتنمية القطاع السياحي بالبلاد بمختلف أنواعه وتجلياته، وصولا إلى ما يتيحه ذلك من مردودية معتبرة تستفيد منها البلاد برمتها.
واعتمدت السلطات العمومية في البلد في العشرية الاخيرة إستراتيجية شاملة لتحقيق هذه الأهداف بغية الارتقاء بهذه المدن لكي تستعيد مكانتها أيام كانت مراكز تجارية عامرة ومنارات ثقافية متألقة تؤمها الناس من كل صوب و حدب سعيا إلى التسوق وإلى التعلم.
استفادت هذه المدن ضمن هذه الإستراتيجية فضلا عن المشاريع التنموية التي تحققت في كافة مدن البلاد، من استثمارات خاصة، فضلا عن المهرجانات التي تنظم سنويا و بشكل دوري في هذه المدن، بحضور و إشراف فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد عبد العزيز، الذي أكد أكثر من مرة أن الحفاظ على المدن القديمة وترقيتها يعد حفاظا على هويتنا الثقافية والحضارية وإسهاما في ترسيخ وتنمية قيم التسامح والاستقامة والتكافل التي اشتهر بها المجتمع الموريتاني على مر العصور.
وكرر فخامة رئيس الجمهورية في خطبه أمام مختلف مهرجانات المدن القديمة أن هذا اللقاء يشكل فرصة تتجدد سنويا لاستحضار أمجاد تاريخنا القديم، و مناسبة لإثراء تراثنا وفنوننا العربية الإفريقية الفريدة وإحياء الفضاءات العلمية والفكرية والأنشطة الفنية والثقافية والتراثية.
كما تشكل مدننا القديمة ثقافة وعمرانا رمزا لهويتنا الحضارية وشاهدا حيا على دورنا التاريخي الرائد، لقد كانت تستقطب العلماء من كل الأقطار وكان لها فضل كبير في انتشار المعرفة والدين الإسلامي السمح شمال وجنوب الصحراء.
إن مهرجان المدن القديمة يهدف في ذات الوقت وبالأساس إلى ترقية هذه المدن ومدها بمقومات النمو والتطور مع المحافظة على معالمها العمرانية وروحها التراثية و تاريخها العريق. حيث ظل هذا الهدف حاضرا بقوة في سياسات الحكومة على مر السنوات الأخيرة فبذلت جهود كبيرة في سبيل تطوير البنية التحتية في هذه المدن وفك العزلة عنها وخلق فرص عمل لسكانها ودعم نشاطاتهم المدرة للدخل.
أصبح مهرجان المدن القديمة معلمة ثقافية أصيلة ومشروعا اجتماعيا متميزا يحيي تراثنا العربي الإفريقي المجيد ويعزز لحمتنا الوطنية ويبرز الإسهام الثقافي الموريتاني في تنوعه وثرائه الفريد ويحفز السياحة وينشط التنمية المحلية، كما أنه فرصة لإعادة الاعتبار لموروثنا المادي والروحي من خلال إحياء الألعاب الثقافية التقليدية واللقاءات الفكرية والمسابقات العلمية. وهو فرصة كذلك لإبراز عبقرية الإنسان الموريتاني وقدرته على التكيف مع محيطه واستثماره الأمثل لمقدراته. كما أنه مناسبة لترسيخ قيم التضامن والتكافل في إطار الوحدة الوطنية والإخوة الإسلامية.
مثلت هذه المدن عبر التاريخ، مناطق جذب للعلماء والطلاب ومراكز إشعاع للعلوم الإسلامية والمعارف الإنسانية التي حملها علماؤنا الأجلاء جنوب الصحراء وشمالها وعرفت ساكنتها على مر العصور بالتمسك بتعاليم ديننا الحنيف، دين الوسطية والاعتدال.
إن الواجب الوطني يفرض علينا الاهتمام بمدننا التاريخية وتنمية مواردها وتطوير بناها التحتية وفك العزلة عنها، فهي شاهد حي على حقبة ازدهار عرفتها بلادنا ينبغي علينا جميعا أن نفخر بها كما يجب علينا الحفاظ على هذه المدن والدفع بالتنمية فيها وأن نجعل منها أقطاب جذب للباحثين والمهتمين بتاريخنا وعاداتنا.
لقد شكل مهرجان المدن القديمة مشروعا ثقافيا تنمويا عمل على إخراج هذه المدن من عزلتها لتستعيد مكانتها فتنهض بدورها الحضاري في المنطقة، حيث حققت هذه التظاهرة السنوية العديد من أهدافها في تنشيط الاقتصاد المحلي والتأسيس لبنية تحتية قادرة على أن تجعل من مدننا التاريخية مراكز جذب كما كانت بكنوزها التي لا تقدر بثمن وتاريخها المجيد.
وأسهمت هذه التظاهرات في جعل هذه المدن قبلة للسائحين والباحثين في مختلف العلوم مما جعلها مراكز عالمية للسياحة.
وتم في إطار النسخة الأخيرة من هذا المهرجان التي احتضنتها مدينة ولاته خلال شهر نوفمبر الماضي 2018 كسابقاتها تنظيم العديد من التظاهرات الثقافية والفكرية والاجتماعية والفنية شملت تنظيم معارض للكتب والمخطوطات والمطبوعات في هذه المدن، وتنظيم محاضرات علمية ركزت من بين أمور أخرى على دور المحاظرة الموريتانية في نشر الإسلام ومحاربة الغلو والتطرف، مع إبراز دورها البارز في المقاومة الثقافية للمحتل حيث حافظت على التمسك بنهجها في تدريس القرآن الكريم وعلومه لطلابها رغم ما قدمه المحتل وأعوانه من إغراء مادي لآباء الطلاب لتسجيلهم في مدارسه.
كما شملت الأنشطة المنظمة في إطار هذا المهرجان الثقافي كذلك تنظيم مسابقات في حفظ القرآن الكريم مع أحكام الأداء والتجويد، و في الحديث النبوي الشريف، كما شملت كذلك تنظيم مسابقات في بعض الألعاب التقليدية الموريتانية المعروفة شعبيا ب “ظامت” و “السيك” و “اكرور”، إضافة إلى معارض للتعرف على خصائص الأطباق التقليدية في هذه المدن القديمة والمعروف محليا بعيش فندي، وعيش متري، وعيش اشعير، وابلز، و صمبو،
ولكسور وكسكس ولكتل وعيش تاجه وعينات مختلفة من التمور.
كما احتضنت هذه التظاهرة الثقافية كذلك تنظيم سباقات للإبل ومنافسات في مجال الرماية التقليدية.